فصل: تفسير الآيات (90- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويخطو السياق خطوة أخرى في أسرار الخلق وآثار القدرة ومظاهر النعمة، يدخل بها إلى بيوت القوم وما يسر لهم فيها وحولها من سكن ومتاع وأكنان وظلال!
{والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالًا وجعل لكم من الجبال أكنانًا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون}.
والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة، وذكرها في السياق يجيء بعد الحديث عن الغيب، وظل السكن ليس غريبًا عن ظل الغيب، فكلاهما فيه خفاء وستر، والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة.
ونستطرد هنا إلى شيء عن نظرة الإسلام إلى البيت، بمناسبة هذا التعبير الموحي: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا}. فهكذا يريد الإسلام البيت مكانًا للسكينة النفسية والاطمئنان الشعوري. هكذا يريده مريحًا تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة، أو باطمئنان من فيه بعضهم لبعض، وبسكن من فيه كل إلى الآخر. فليس البيت مكانًا للنزاع والشقاق والخصام، إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام.
ومن ثم يضمن الإسلام للبيت حرمته، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه. فلا يدخله داخل إلا بعد الاستئذان، ولا يقتحمه أحد بغير حق باسم السلطان، ولا يتطلع أحد على من فيه لسبب من الأسباب، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة، فيروع أمنهم، ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت، ويعبر عنه ذلك التعبير الجميل العميق!
ولأن المشهد بيوت وأكنان وسرابيل، فإن السياق يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين}، وهو هنا كذلك يستعرض من نعمة الأنعام ما يلبي الضرورات وما يلبي الأشواق، فيذكر المتاع، إلى جانب الأثاث، والمتاع ولو أنه يطلق على ما في الأرحال من فرش وأغطية وأدوات، إلا أنه يشي بالتمتع والارتياح.
ويرق التعبير في جو السكن والطمأنينة، وهو يشير إلى الظلال والأكنان في الجبال، وإلى السرابيل تقي في الحر وتقي في الحرب: {والله جعل لكم مما خلق ظلالًا وجعل لكم من الجبال أكنانًا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} وللنفس في الظلال استرواح وسكن، ولها في الأكنان طمأنينة ووسن، ولها في السرابيل التي تقي الحر من الأردية والأغطية راحة وفي السرابيل التي تقي البأس من الدروع وغيرها وقاية.
وكلها بسبيل من طمأنينة البيوت وأمنها وراحتها وظلها.، ومن ثم يجيء التعقيب: {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} والإسلام استسلام وسكن وركون..
وهكذا تتناسق ظلال المشهد كله على طريقة القرآن في التصوير.
فإن أسلموا فبها، وإن تولوا وشردوا فما على الرسول إلا البلاغ، وليكونن إذا جاحدين منكرين، بعد ما عرفوا نعمة الله التي لا تقبل النكران!
{فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}.
ثم يعرض ما ينتظر الكافرين عندما تأتي الساعة التي ذكرت في مطلع الحديث: {ويوم نبعث من كل أمة شهيدًا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}.
والمشهد يبدأ بموقف الشهداء من الأنبياء يدلون بما يعلمون مما وقع لهم في الدنيا مع أقوامهم من تبليغ وتكذيب والذين كفروا واقفون لا يؤذن لهم في حجة ولا استشفاع ولا يطلب منهم أن يسترضوا ربهم بعمل أو قول، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء، وجاء وقت الحساب والعقاب. {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون}. ثم يقطع هذا الصمت رؤية الذين أشركوا لشركائهم في ساحة الحشر ممن كانوا يزعمون أنهم شركاء لله، وأنهم آلهة يعبدونهم مع الله أو من دون الله. فإذا هم يشيرون إليهم ويقولون! {ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} فاليوم يقرون: {ربنا} واليوم لا يقولون عن هؤلاء إنهم شركاء لله. إنما يقولون: {هؤلاء شركاؤنا}، ويفزع الشركاء ويرتجفون من هذا الاتهام الثقيل، فإذا هم يجبهون عبادهم بالكذب في تقرير وتوكيد: {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} ويتجهون إلى الله مستسلمين خاضعين {وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم}، وإذا المشركون لا يجدون من مفترياتهم شيئًا يعتمدون عليه في موقفهم العصيب: {وضل عنهم ما كانوا يفترون}، وينتهي الموقف بتقرير مضاعفة العذاب للذين كفروا وحملوا غيرهم على الكفر وصدوهم عن سبيل الله: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون} فالكفر فساد، والتكفير فساد، وقد ارتكبوا جريمة كفرهم، وجريمة صد غيرهم عن الهدى، فضوعف لهم العذاب جزاء وفاقًا.
ذلك شأن عام مع جيمع الأقوام. ثم يخصص السياق موقفًا خاصًا للرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه: {ويوم نبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}.
وفي ظل المشهد المعروض للمشركين، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم، ويستسلمون لله متبرئين من دعوى عبادهم الضالين، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة شهيد. فتجيء هذه اللمسة في وقتها وقوتها: {وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء}. ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول {تبيانًا لكل شيء} فلا حجة بعده لمحتج، ولا عذر معه لمعتذر. {وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}. فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون..
وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق، تتناسق مع جوه وتؤديه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وفيما بعد من هذه السورة: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]، فورد في الأولى زيادة {رحمة} مع اتحاد المقصود في الموضعين من وصف الكتاب، وهذا يظاهر الوارد في الموضعين، فيسأل عن ذلك؟
والجواب عن ذلك أن الأولى مقصود بها بشارة وإنعام لا يشوبه غيره، وقد تبين ذلك، أما الثانية فوارده مورد الزجر والتعنيف لمن لم يؤمن مع البشارة للمؤمنين، ألا ترى ما تقدمها من قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] فجووبوا عن هذا بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] أي قل لهم يا محمد هذا الكلام، وورد بعدها: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] فاكتنف الآية المذكورة ما يفهم التعنيف لهم والوعيد على مرتكبهم، ووضح أن المقصود لم يتحد في الآيتين كما يوهم للبادي من ظاهرهما، وأن زيادة قوله: {ورحمة} في الأولى مناسب لمقصودها من البشارة والإنعام المجرد عن اتصال ما يفهم تعنيفًا أو وعيدًا، ولم يكن ورود ذلك ليناسب الوارد في الثانية، فورد في كل على ما يجب، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء}.
تأتي- يومَ القيامة- كلُّ أمة مع رسولها، فلا أُمةَ كهذه الأمةِ فضلًا، ولا رسولَ كرسولنا صلى الله عليه وسلم- رتبةً وقَدْرًَا.
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ} أي القرآن تبيانًا لكل شيء، فيه للمؤمنين شفاء، وهو لهم ضياء، وعلىلكافرين بلاء، وهو لهم سبب محنة وشقاء. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}.
قوله تعالى: {تِبْيَانًا} يجوز أن يكونَ في موضعِ الحال، ويجوز أن يكونَ مفعولًا مِنْ أجله وهو مصدرٌ، ولم يجئ من المصادرِ على هذه الزِّنَةِ إلا لفظان: هذا وتِلْقاء، وفي الأسماء كثيرٌ نحو: التِّمْساح والتِّمْثال، وأمَّا المصادرُ فقياسُها فتحُ الأولِ دلالةً على التكثير كالتِّطواف والتِّجْوال، وقال ابن عطية: إن التِّبْيان اسمٌ وليس بمصدرٍ، والنَّحْويون على خلافِه.
قوله: {للمُسْلمين} متعلقٌ بـ {بُشْرَى} وهو متعلقٌ من حيث المعنى ب {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أيضا، وفي جوازِ كونِ هذا من التنازعِ نظرٌ من حيث لزومُ الفصلِ بين المصدرِ معمولِه بالمعطوفِ حالَ إعمالِك غيرَ الثالِث فتأمَّله، وقياسُ مَنْ جَوَّز التنازعَ في فعلِ التعحبِ والتزم إعمال الثاني لئلا يَلْزَمَ الفصلُ أن يُجَوِّز هذا على هذه الحالةِ. اهـ.

.تفسير الآيات (90- 92):

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين تعالى فضل هذا القرآن بما يقطع حجتهم، وكان قد قدم فضل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، أخذ يبين اتصاف القرآن ببيان كل شيء، وتضمنه لذلك الطريق الأقوم، فقال تعالى جامعًا لما يتصل بالتكاليف فرضًا ونفلًا، وما يتصل بالأخلاق والآداب عمومًا وخصوصًا: {إن الله} أي الملك المستجمع لصفات الكمال {يأمر بالعدل} وهو الإنصاف الذي لا يقبل عمل يدونه، وأول درجاته التوحيد الذي بنيت السورة عليه، والعدل يعتبر تارة في المعنى فيراد به هيئة في الإنسان تطلب بها المساواة، وتارة في العقل فيراد به التقسيط القائم على الاستواء، وتارة يقال: هو الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه، وتارة يقال: هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر على استعماله في نفسه وفي غيره، وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة وبه يستتب أمر العالم، وبه قامت السماوات والأرض، وهو وسط كل أطرافه جور، وبالجملة الشرع مجمع العدل، وبه تعرف حقائقه، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل- ذكره الرازي في اللوامع وفيه تلخيص، وفي آخر الجزء الخامس عشر من الثقفيات أن عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنهم- قال لمحمد بن كعب القرظي- رضي الله عنهم-: صف لي العدل، فقال: كن لصغير الناس أبًا، ولكبيرهم ابنًا، وللمثل أخًا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم، ولا تضربن لغضبك سوطًا واحدًا فتعدَّى فتكون من العادين انتهى.
{والإحسان} وهو فعل الطاعة على أعلى الوجوه، فالعدل فرض، والإحسان فضل، وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس، لأنه ربما وقع في الفرض نقص فجبر بالنفل، وهو في التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات، ومن أعلاه الغنى عن الأكوان، وتكون الأكوان في غيبتها عند انبساط نور الحق كالنجوم في انطماسها عند انتشار نور الشمس، وغايته الفناء حتى عن هذا الغنى، وشهود الله وحده، وهو التوحيد على الحقيقة كما في حديث أبي هريرة- رضي الله عنهم- المتفق عليه «لإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهو روح الإنسانية، ففي الجزء الثامن من الثقفيات عن عاصم بن كليب الجرمي قال: حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: وأنا غلام أعقل وأفهم، قال: فانتهى بالجنازة إلى القبر ولما يمكن لها فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولسوّ ذا أو خذ ذا! قال: حتى ظن الناس أنها سنة، فالتفت إليهم فقال: أن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن.
{وإيتاء ذي القربى} فإنه من الإحسان، وهو أولى الناس بالبر، وذلك جامع للاحسان في صلة الرحم.
ولما أمر بالمكارم، نهى عن المساوىء والملائم فقال تعالى: {وينهى عن الفحشاء} وهي ما اشتد تقصيره عن العدل فكان ضد الإحسان {والمنكر} وهو ما قصر عن العدل في الجملة {والبغي} وهو الاستعلاء على الغير ظلمًا، وقال البيضاوي في سورة الشورى: هو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتجزأ كمية أو كيفية.
وهو من المنكر، صرح به اهتمامًا، وهو أخو قطيعة الرحم ومشارك لها في تعجيل العقوبة «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي بكرة- رضي الله عنهم- ورفعه، وأصل البغي الإدارة، كأنه صار بفهم هذا المعنى المحظور- المحذور عند حذف مفعوله، لأن الإنسان- لكونه مجبولًا على النقصان- لا يكاد يصلح منه إرادة، فعليه أن يكون مسلوب الاختيار، مع الملك الجبار، الواحد القهار، فتكون إرادته تابعة لإرادته، واختياره من وراء طاعته، وعن الحسن أن الخلقين الأولين ما تركا طاعة إلا جمعاها والأخيرين ما تركا معصية إلا جمعاها.
ولما دعا هذا الكلام على وجازته إلى أمهات الفضائل لي هي العلم والعدل والعفة والشجاعة، وزاد من الحسن ما شاء، فإن الإحسان من ثمرات العفة، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة إذن فيما سواه منها، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم وكان هذا أبلغ وعظ، نبه عليه سبحانه بقوله تعالى: {يعظكم} أي يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة ثلاثة ومجانبة ثلاثة {لعلكم تذكرون} أي ليكون حالكم حال من يرجى تذكره، لما في ذلك من المعالي بما وهب الله من العقل، الداعي إلى كل خير، الناهي عن كل ضير، فإن كل أحد من طفل وغيره يكره أن يفعل معه شيء من هذه المنهيات، فمن كان له عقل واعتبر بعقله علم أن غيره يكره منه ما يكره هو منه، ويعلم أنه إن لم يكف عن فعل ما يكره أخوه وقع التشاجر، فيحصل الفساد المؤدي إلى خراب الأرض، هذا في الفعل مع أمثاله من المخلوقين، فكيف بالخالق بأن يصفه بما لا يليق به سبحانه، وعز اسمه، وتعالى جده، وعظم أمره!.
ولما تقررت هذه الجمل التي جمعت- بجمعها للمأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت قاموس البحر وتعالت عن طوق البشر، عطف على ما أفهمه السياق- من نحو: فتذكروا أو فالزموا ما أمرتم به ونابذوا ما نهيتم عنه- بعض ما أجملته، وبدأ بما هو مع جمعه أهم وهو الوفاء بالعهد الذي يفهم منه العلماء بالله ما دل عليه العقل من الحجج القاطعة بالتوحيد وصدق الرسل ووجوب اتباعهم، فكانت أعظم العهود، ويفهم منه غيرهم ما يتعارفونه مما يجري بينهم من المواثيق، فإذا ساروا فيها بما أمر سبحانه وتحروا رضاه علمًا منهم بأنه العدل، قادهم ذلك إلى رتبة الأولين فقال تعالى: {وأوفوا} أي أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره {بعهد الله} أي الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل والنقل من التوحيد وغيره من أصول الدين وفروعه {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20]. {وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} [البقرة: 27]. {إذا عاهدتم} بتقبلكم له بإذعانكم لأمثاله من الأدلة فيما عرف من عوائدكم، وصرحتم به عند شدائدكم {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} ثم عطف عليه ما هو من جنسه وأخص منه فقال تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان} واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى: {بعد توكيدها} وحذف الجار لأن المنهي عنه إنما هو استغراق زمان البعد بالنقض، وذلك لا يكون إلا بالكذب الشامل له كله، بعضه بالقوة وبعضه بالفعل، ولعله جمع إشارة إلى أن المذموم استهانتها من غير توقف على كفارة، لأن من فعل ذلك ولو في واحدة كان فاعلًا ذلك في الجميع، بخلاف من ينقض ما نقضه خير بالكفارة فإنه ناقض للبعض لا للكل، لأنه دائر مع الخير والأول دائر مع الهوى؛ ثم حذرهم من النقض بأنه مطلع قادر، فقال تعالى مقبحًا حالهم إذ ذاك: {وقد جعلتم الله} أي الذي له العظمة كلها {عليكم كفيلًا} أي شاهدًا ورقيبًا.
ولما كان من شأن الرقيب حفظ أحوال من يراقبه، قال تعالى مرغبًا مرهبًا: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم ما تفعلون} فلم تفعلوا شيئًا إلا بمشيئته وقدرته، فكانت كفالته مجعولة بهذا الاعتبار وإن لم يصرح بالجعل، فمتى نقضتم فعل بكم فعل الكفيل القادر بالمكفول المماطل من أحد الحق والعقوبة.
ولما أمر بالوفاء ونهى عن النقض، شرع في تأكيد وجوب الوفاء وتحريم النقض وتقبيحه تنفيرًا منه فقال تعالى: {ولا تكونوا} أي في نقضكم لهذا الأمر المعنوي {كالتي نقضت غزلها} ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد، قال تعالى: {من بعد قوة} عظيمة حصلت له {أنكاثًا} أي أنقاضًا، جمع نكث وهو كل شيء نقض بعد الفتل سواء كان حبلًا أو غزلًا، فهو مصدر مجموع من نقضت لأنه بمعنى نكثت، قال في القاموس: النكث- بالكسر أن تنقض أخلاق الأكسية لتغزل ثانية.
فيكون مثل جلست قعودًا، أي فتكونوا بفعلكم ذلك كهذه المرأة التي ضربتم المثل بها في الخرق مع ادعائكم أنه يضرب بأدناكم المثل في العقل، ثم وصل بذلك ما يعرف أنهم أسفه من تلك المرأة بسبب أن ضررها لا يتعداها، وأما الضرر بفعلهم فإنه مفسد لذات البين فقال تعالى: {تتخذون} أي بتكليف الفطرة الأولى ضد ما تدعو إليه من الوفاء {أيمانكم دخلًا} أي فيضمحل كونها أيمانًا إلى كونها ذريعة إلى الفساد بالخداع والغرور {بينكم} من حيث إن المحلوف له يطمئن فيفجأه الضرر، ولو كان على حذر لما نيل منه ولا جسر عليه، وكل ما أدخل في الشيء على فساد فهو دخل {إن} أي تفعلون ذلك بسب أن {تكون أمة} أي وهي الخادعة أو المخدوعة لأجل سلامتها {هي} أي خاصة {أربى} أي أزيد وأعلى {من أمة} في القوة أو العدد، فإذا وجدت نفادًا لزيادتها غدرت.
ولما عظم عليهم النقض، وبين أن من أسبابه الزيادة، حذرهم غوائل البطر فقال تعالى: {إنما يبلوكم} أي يختبركم {الله} أي الذي له الأمر كله {به} أي يعاملكم معاملة المختبر بالأيمان والزيادة ليظهر للناس تمسككم بالوفاء أو انخلاعكم منه اعتمادًا على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم مع قدرته سبحانه على ما يريد، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القوي ويقلل الكثير {وليبينن لكم} أي إذا تجلى لفصل القضاء {يوم القيامة} مع هذا كله {ما كنتم} أي بجبلاتكم {فيه تختلفون} فاحذروا يوم العرض على ملك الملوك بحضرة الرؤساء والملوك وجميع المعبودات والكل بحضرته الشماء داخرون، ولديه صاغرون، ومن نوقش الحساب يهلك. اهـ.